الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.ولاية سعيد بن العاص الكوفة. كان عثمان لأول ولايته قد ولى على الكوفة الوليد بن عقبة استقدمه إليها من عمله بالجزيرة وعلى بني تغلب وغيرهم من العرب فبقي على ولاية الكوفة خمس سنين وكان أبو زبيد الشاعر قد انقطع إليه من أخواله بني تغلب ليد أسداها إليه وكان نصرانيا فأسلم على يده وكان يغشاه بالمدينة والكوفة وكان أبو زبيد يشرب الخمر فكان بعض السفهاء يتحدث بذلك في الوليد لملازمته إياه ثم عدا الشباب من الأزد بالكوفة على رجل من خزاعة فقتلوه ليلا في بيته وشهد عليهم أبو شريح الخزاعي فقتلهم الوليد فيه بالقسامة وأقام آباؤهم للوليد على حقه وكانوا ممن يتحدثون فيه وجاؤا إلى ابن مسعود بمثل ذلك فقال: لا نتبع عورة من استتر عنا وتغيظ الوليد من هذه المقالة وعاتب ابن مسعود عليها ثم عمد أحد أولئك الرهط إلى ساحر قد أتى به الوليد فاستفتى ابن مسعود فيه وأفتى بقتله وحبسه الوليد ثم أطلقه فغضبوا وخرجوا إلى عثمان شاكين من الوليد وأنه يشرب الخمر فاستقدمه عثمان وأحضره وقال: رأيتموه يشرب؟ قالوا لا إنما رأيناه يقيء الخمر فأمر سعيد بن العاص فجلده وكان علي حاضرا فقال: إنزعوا خميصته للجلد وقيل إن عليا أمر ابنه الحسن أن يجلده فأبى فجلده عبد الله بن جعفر ولما بلغ أربعين قال: أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة.ولما وقعت هذه الواقعة عزل عثمان الوليد عن الكوفة وولى مكانه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية مات سعيد الأول كافرا وكان يكنى أحيحة وخالد ابنه عم سعيد الثاني ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صنعاء وكان يكتب واستشهد يوم مرج الصفر وربي سعيد الثاني في حجر عثمان فلما فتح الشام أقام مع معاوية ثم استقدمه عثمان وزوجه وأقام عنده حتى كان من رجال قريش فلما استعمله عثمان وذلك سنة ثلاثين سار إلى الكوفة ومعه الأشتر وأبو خشة الغفاري وجندب بن عبد الله والصعب بن جثامة وكانوا شخصوا مع الوليد ليعينوه فصاروا عليه فلما وصل خطب الناس وحذرهم وتعرف الأحوال وكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب الروادف والتابعة على أهل الشرف والسابقة فكتب إليه عثمان أن يفضل أهل السابقة ويجعل من جاء بعدهم تبعا يعرف لكل منزلته ويعطيه حقه فجمع الناس وقرأ عليهم كتاب عثمان وقال: أبلغوني حاجة ذي الحاجة وجعل القراء في سمره فلم ترض أهل الكوفة ذلك وفشت المقالة وكتب سعيد إلى عثمان فجمع الناس واستشارهم فقالوا: أصبت لا تطمع في الأمور من ليس لها بأهل فتفسد فقال: يا أهل المدينة إني أرى الفتن دبت إليكم وإني أرى أن أتخلص الذي لكم وأنقله إليكم من العراق فقالوا: وكيف ذلك؟ قال: تبيعونه ممن شئتم بما لكم في الحجاز واليمن ففعلوا ذلك واستخلصوا ما كان لهم بالعراق منهم طلحة ومروان والأشعث بن قيس ورجال من القبائل واشتروا ذلك بأموال كانت لهم بخيبر ومكة والطائف..غزو طبرستان. وفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان ولم يغزها أحد قبله وقد تقدم أن الأصبهبذ صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر على مال فغزاها سعيد في هذه السنة ومعه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الحسن والحسين وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وحذيفة بن اليمان في غيرهم ووافق خروج ابن عامر من البصرة إلى خراسان فنزل نيسابور ونزل سعيد قومس وهي صلح كان حذيفة صالحهم عليه بعد نهاوند فأتى سعيد جرجان فصالحوه على مائتي ألف ثم أتى متاخمة جرجان على البحر فقاتله أهلها ثم سألوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا وفتحوا فقتلهم أجمعين إلا رجلا وقتل معه محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمرو وكان أهل جرجان يعطون الخراج تارة مائة ألف وأخرى مائتين وثلثمائة وربما منعوه ثم امتنعوا وكفروا فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد وصار الطريق إلى خراسان من فارس كما كان من قبل حتى ولي قتيبة بن مسلم خراسان وقدمها يزيد بن المهلب فصالح المرزبان وفتح البحيرة ودهستان وصالح أهل جرجان على صلح سعيد..غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف. وفي سنة ثلاثين هذه صرف حذيفة من غزو الري إلى غزو الباب مددا لعبد الرحمن بن ربيعة وأقام له سعيد العاص بأذربيجان ردءا حتى عاد بعد مقتل عبد الرحمن كما مر فأخبره بما رأى من اختلاف أهل البلدان في القرآن وأن أهل حمص يقولون قراءتنا خير من قراءة غيرنا وأخذناها عن المقداد وأهل دمشق يقولون كذلك وأهل البصرة عن أبي موسى وأهل الكوفة عن ابن مسعود وأنكر ذلك واستعظمه وحذر من الاختلاف في القرآن ووافقه من حضر من الصحابة والتابعين وأنكر عليه أصحاب ابن مسعود فأغلظ عليهم وخطأهم فأغلظ له ابن مسعود فغضب سعيد وافترق المجلس وسار حذيفة إلى عثمان فأخبره وقال: أنا النذير العريان فأدرك الأمة فجمع عثمان الصحابة فرأوا ما رآه حذيفة فأرسل عثمان إلى حفصة أن إبعثي إلينا بالصحف ننسخها وكانت هذه الصحف هي التي كتبت أيام أبي بكر فإن القتل لما استحر في القراء يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: أرى أن تأمر بجمع القرآن لئلا يذهب الكثير منه لفناء القراء فأبى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله ثم استبصر ورجع إلى رأي عمر وأمر زيد ثابت بجمعه من الرقاع والعسب وصدور الرجال وكتب في الصحف فكانت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة وأرسل عثمان فأخذها وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش ففعلوا ونسخوا المصاحف فبعث إلى كل أفق بمصحف يعتمد عليه وحرق ما سوى ذلك الصحابة في سائر الأمصار ونكره عبد الله بن مسعود في الكوفة حتى نحاهم عن ذلك وحملهم عليه.
|